سورة آل عمران - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر الزبير، ومحمد بن مروان عن الكلبي، وعبد اللّه بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع بن أنس، قالوا: نزلت هذه في وفد نجران، وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدَّرون عن رأيه، واسمهُ عبد المسيح. والسيَّد عالمهم وصاحب رحلهم واسمه الأيْهم ويقال: شرحبيل وأبو حارثة بن علقمة الذي يعتبر حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرَّس كهنتهم من حسن عمله في دينهم، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه وموّلوه وبنو له الكنائس لعلمه واجتهاده.
فقدموا على رسول اللّه المدينة ودخلوا مسجدهُ حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحديد، في جمال رجال بلحرث بن كعب، يقول بعض مَن رآهم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم: ما رأينا وفداً مثلهم!
وقد حانت صلاتهم فقاموا وصلَّوا في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم وصلَّوا إلى المشرق.
فكلَّم السيد والعاقب رسوال اللّه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلَّم: «أسلمنا. قالا: قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما؛ يمنعكما من الإسلام ادَّعاءكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير».
قالا: إن لم يكن ولد لله فمن أبيه وخاصموه جميعاً في عيسى عليه السلام، فقال لهما النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إنّه لا يكون ولد إلاّ وشبه أباه». قالوا: بلى، قال: «ألستم تعلمون أن ربَّنا حيٌ لا يموت وإنَّ عيسى يأتي عليه الفناء؟» قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أنَّ ربَّنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟» قالوا: بلى. قال: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً؟» قالوا: لا. قال: «ألستم تعلمون إن اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟» قالوا: بلى.
قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك إلاّ ما عُلَّم؟».
قالوا: لا.
قال: «فإنّ ربَّنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟» قالوا: بلى قال: «ألستم تعلمون إنّ عيسى حملتهُ أمهُ كما تحمل المرأة، ثم وضعتهُ كما تضع المرأة حملها، ثم غذي كما يغذى الصبي، وكان يُطعم ويشرب ويُحدث»، قالوا: بلى. قال: «فكيف يكون هذا كما زعمتم؟» فسكتوا.
فأنزل اللّه تعالى فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
فقال عزَّ من قائل: {الم} قرأ ابن جعفر بن زبير القعقاع المدني {ا ل م} مفصولاً، ومثلها جميع حروف التهجَّي المُفتح بها السور.
وقرأ ابن جعفر الرواسي والاعشى والهرحمي: {الم الله} مقطوعاً والباقون موصولاً مفتوح الميم.
فمن فتح الميم ووصل فله وجهان:
قال البصريون: لإلتقاء الساكنين حركت إلى أخف الحركات.
وقال الكوفيون: كانت ساكنة؛ لأن حروف الهجاء مبنية على الوقف فلمّا تلقاها ألف الوصل وأدرجت الألف فقلبت حركتها وهي الفتحة إلى الميم.
ومن قطع فلهُ وجهان:
أحدهما: نية الوقف ثم قطع الهمزة للإبتداء، كقول الشاعر:
لتسمعنَّ وشيكاً في ديارهم *** اللّه أكبر يا ثاراث عثمانا
والثاني: أن يكون أجراه على لغة من يقطع ألف الوصل.
كقول الشاعر:
إذا جاوز الأثنين سرَّ *** فإنه بنت وتكثير الوشاة قمينُ
ومن فصل وقطع فللتفخيم والتعظيم تعالى {اللَّهِ} إبتداء وما بعده خبر، {الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} نعت له، {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} قرأ إبراهيم بن أبي عبلة: نزل بتحفيف الزاي، الكتاب: برفع الباء، وقرأ الباقون: بتشديد الزاي ونصب الباء على التكثير؛ لأنَّ القرآن كان ينزل نجوماً شيئاً بعد شيء والتنزيل يكون مرّة بعد مرَّة، وقال: {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل}؛ لأنهما نزلتا دفعة نزل عليك يا محمد الكتاب القرآن {بالحق}: بالعدل، والصدق، {مُصَدِّقاً}: موافقاً {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}: لما قبله من الكتب في التوحيد، والنبوَّات، والأخبار، وبعض الشرائع.
{وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} قال البصريون: أصلها وَوْديه دوجله وحرقله فحوَّلت الواو الاولى تاء وجعلت الياء المفتوحة ألفاً فصارت توراة، ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة، وقال الكوفيون: هي تفعله والعلة فيه ما ذكرنا مثل (توصية)، و(توفية) فقلبت الياء ألفاً كما يفعل طي، فيقول للجارية: جاراة، وللناصية: ناصاة، وأصلها من قولهم: (وري الزند) إذا أخرجت ناره وأولته أنا، قال اللّه عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} [الواقعة: 71]، وقال: {فالموريات قَدْحاً} [العاديات: 2] فتسمى تورية؛ لأنه نور وضياء دلَّ عليه قوله تعالى: {وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] قاله الفراء، وأكثر العلماء، وقال المؤرج: هي من التورية وهي كتمان الشيء والتعريض لغيره.
ومن الحديث كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد شيئاً وري بغيره».
وكان أكثر التورية معارض وتلويحاً من غير إيضاح وتصريح، وقيل: هي بالعبرانية (نوروثو) ومعناه: الشريعة.
والإنجيل أفضل من (النجل) وهو الخروج، ومنه سميَّ الولد (نجلاً) لخروجه. قال الأعشى:
أنجب أزمان والداه به *** اذ نجَّلاه فنعم ما نجلا
فسمي بذلك؛ لأن اللّه تعالى أخرج به دارساً من الحق عافياً.
ويقال: هو من المتنجل، وهو سعة الجن، يقال: قطعنه نجلا أي: واسعة فسمي بذلك؛ لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم نوراً وضياء، وقيل: هو بالسريانية (انقليون) ومعناه: الشريعة:
وقرأ الحسن الأنجيل بفتح الهمزة، يصححه الباقون بالكسر مثل: الإكليل.
{مِن قَبْلُ} رفع على الغاية والغاية هاهنا قطع الكتاب عنه كقوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} وقال زهير:
وما كان من خير أتوه *** فإنّما توارثه آباء آبائهم قبل
{هُدًى لِّلنَّاسِ} هاد لمن تبعه، ولم ينته؛ لأنَّه مصدر وهو في محل النصب على الحال والقطع.
{وَأَنزَلَ الفرقان} الفرق بين الحق والباطل، قال السدي: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: وأنزل التوراة والانجيل والفرقان هدىً للمتقين.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}.
{إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء}.
{هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} ذكراً وأنثى، قصيراً وطويلاً، أسوداً وأبيضاً، حسناً وقبيحاً، سعيداً وشقياً.
{لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم}.
{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} متقنات مبينات مفصلات.
{هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام ويجمع الحلال والحرام ويفرَّغ لأهل الإسلام، وهنَّ آيات التوراة والإنجيل والقرآن، وفي كل كتاب يرضى به أهل كل دين، ولا يختلف فيه أهل كل بلد.
والعرب تسمي كلَّ شيء فاضل جامع يكون مرجعاً لقوم، كما قيل للَّوح المحفوظ: أم الكتاب، والفاتحة: أمُّ القرآن، ولمكَّه: أمَّ القرى وللدماغ: أمُّ الرأس، وللوالدة: أم، وللراية: أم، وللرجل الذي يقوم بأمر العيال: أم، وللبقرة والناقة أو الشاة التي يعيش بها أهل الدار: أم، وكان عيسى عليه السلام يقول: (للماء هذا أبي)، وللخبز: (هذه أُمَّي)؛ لأنَّ قوام الأبدان بهما.
وإنَّما قال أُمَّ الكتاب ولم يقل أُمَّهات الكتب؛ لأنَّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام اللّه واحدٌ.
وقيل: معناه كلمة واحدة فهُنَّ أُمَّ الكتاب كما قال: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] أي كل واحد منهما آية.
{وَأُخَرُ}: جمع أخرى ولم يصرف؛ لأنَّه معدول عن أواخر، مثل عُمر، وزفر وهو قاله الكسائي.
وقيل: ترك أخراه؛ لانَّه نعت مثل جُمع، وكُسع لم يصرفا؛ لأنَّهما نعتان.
وقيل: لأنَّه مبني على واحدة في ترك الصرف وواحدة اخرى غير مصروف.
{مُتَشَابِهَاتٌ}: تشبه بعضها بعضا، واختلف العلماء في المحكم والمتشابه كليهما فقال قتادة والربيع والضحاك والسدي (المحكم): الناسخ الذي يُعمل له. و(المتشابه): المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به، هي رواية عطيه عن ابن عباس. روى علي ابن أبي طلحة عنه قال: «محكمات القرآن ناسخة، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به».
والمتشابه: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله واقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به.
زهير بن معاوية عن أبي إسحاق قال: قال ابن عباس: قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} قال: هي الثلاث الآيات في سورة الأنعام {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات الثلاث، نظيرها في سورة بني اسرائيل {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} وقال مجاهد، وعكرمة: (المحكم): ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يصدَّق بعضها بعضا.
قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكم: مالا يُحتمل من التأويل غير وجه واحد.
والمتشابه: ما أحتمل من التأويل أوجهاً.
وقال ابن زبير: من المحكم ما ذكر اللّه تعالى في كتابه من قصص الانبياء عليهم السلام، وفصلت وتنتهِ لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمَّته، كما ذكر قصة نوح في أربع وعشرين آية منها، وقصة هود في عشر آيات، وقصّة صالح في ثمان آيات، وقصة إبراهيم في ثمان آيات، وقصة لوط في ثمان آيات، وقصة شعيب في عشر آيات، وقصة موسى في آيات كثيرة.
وذكر آيات حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية.
والمتشابه: هو ما اختلف به الالفاظ من قصصهم عند التكرير، كما قال في موضع من قصة نوح: {قُلْنَا احمل} [هود: 40] وقال وفي موضع آخر: {فاسلك} [المؤمنون: 27].
وقال في ذكر عصا موسى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20]، وقال في موضع آخر: {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 107] ونحوها.
وإن بعضهم قال: (المحكم): ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه.
و(المتشابه): ما ليس لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر اللّه بعلمه وذلك نحو الخبر عن وقت خروج الدجّال، ونزول عيسى، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدَّنيا، ومحوها.
وقال أبو فاختة: المحكمات التي هنَّ أم الكتاب فواتح السور منها يستخرج القرآن {الم * ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1-2] منها استخرجت البقرة، و{الم * الله} [آل عمران: 1-2] أستخرجت آل عمران.
وقال ابن كيسان: المحكمات حجتها واضحة، ودلائلها لائحة، لا حاجة بمن سمعها إلى طلب معانيها في المتشابه الذي شك علمه، بالنظر فيه يعرف العوَّام تفصيل الحق فيه من الباطل.
وقال بعضهم: المحكم ما أجمع على تأويله، والمتشابه ما ليس معناه واضح.
وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب.
وقال الشعبي: رأيتُ في بعض التفاسير أنَّ المتشابه هو ما خفي لفظه والمحكم ما كان لفظه واضح وعلى هذا القرآن كلّه محكم من وجه على معنى (بشدَّة) [.....]، قال اللّه تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1].
والمتشابه من وجه فهو إنَّه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً.
وقال ابن عبَّاس في رواية شاذان: المتشابه حروف التهجَّي في أوائل السَّور، وذلك بأنَّ حكام اليهود هم حُيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف ونظراءهما أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلَّم فقال له حيَّي: بلغنا أنَّه أُنزل عليك {آلم} أأُنزلت عليك؟ قال: نعم، فإن كان ذلك حقَّاً فإنَّي أعلم من هلك بأُمَّتك وهو إحدى وسبعون سنة فهل أنزلت عليك غيرها؟ قال: نعم والى {المص} [الأعراف: 1]، قال: هذه أكبر من تلك هي إحدى وستون ومائة سنة فربما غيرها؟ قال: نعم.
{الر} [يونس: 1] قال: هذه أكثر من مائة وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليلة؟ ونحن ممَّن لا يؤمن بهذا، فأنزل تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: أي ميل عن الحق، وقيل: شك.
{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه}: إختلفوا في معنى هذه الآية، فقال الربيع: هم وفد نجران خاصموا النبي صلى اللّه عليه وسلَّم وقالوا: ألست تعلم أنَّه كلمة اللّه وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: فحسبنا ذلك، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي: هم اليهود أجهل هذه الأمَّة باستخراجه بحساب الجمل. وقال ابن جري: هم المنافقون. قال الحسن: هم الخوارج.
وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: إن لم يكونوا آخرون فالسبابيَّة ولا أدري من هم.
وقال بعضهم: هم جميع المُحدثة.
وروي حمَّاد بن سلمة وأبو الوليد يزيد بن أبي ميثم وأبوه جميعاً عن عبد اللّه بن أبي مليكة الفتح عن عائشة: أنَّ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم قرأ هذه الآية: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} فقال صلَّى اللّه عليه وسلَّم: «إذا رأيتم الَّذين يسألون عمَّا تشابه منه ويجادلون فيه الَّذين عنى اللّه عزَّ وجل فاحذروهم ولا تخالطوهم».
{ابتغاء الفتنة}: طلب الشرك قالهُ الربيع، والسدي، وابن الزبير، ومجاهد: ابتغاء الشبهات واللبس ليضلّوا بها جهّالهم.
{وابتغاء تَأْوِيلِهِ}: تفسيره وعلمهُ دليله قوله تعالى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78].
وقيل: ابتغاء عاقبته، وطلب مدة أجل محمَّد، وامته من حساب الجمل، دليله قوله تعالى: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] أي عاقبته، وأصلهُ من قول العرب: تأول الفتى إذا انتهى.
قال: الأعشى:
على أنّها كانت تأوّل جها *** تأوّل ربعي السقاب فأصحبا
يقول: هذا السجيُ لها فانقرت لها وابتغتها، قال اللّه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم} واختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها.
فقال قوم: الواو في قوله: {والراسخون فِي العلم} واو العطف، يعني أن تأويل المتشابه يعلمهُ اللّه ويعلمهُ الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون: {آمَنَّا بِهِ}.
وهو قول مجاهد والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، واختيار القتيبي قالوا: معناها يعلمونه ويقولون آمنا به فيكون قوله: يقولون، حالاً والمعنى: الراسخون في العلم قائلين آمنَّا به.
قال ابن المفرغ الحميري:
أضربت حبك من امامه *** من بعد أيام برامه
الريح تبكي شجوها *** والبرق يلمعُ في الغمامة
أراد والبرق لامعاً في غمامه وتبكي شجوه أيضاً، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانهُ معنى.
ودليل هذا التأويل قولهُ: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7]. ثم قال: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ}
[الحشر: 8] الآية.
ثم قال: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9]: أي والذين تبؤوا الدار، ثم قال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]:. ثم أخبر عنهم أنَّهم {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} [الحشر: 10] الآية.
ولا شك في أنَّ قوله: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] عطف على قوله: {والذين تَبَوَّءُوا الدار} [الحشر: 9]، وانَّهم يشاركون للفقراء المهاجرين والأنصار في الفيء و{يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} [الحشر: 10] من جملة {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]. فمعنى الآية {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وهم مع استحقاقهم الفيء {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} [الحشر: 10] أي قائلين على الحال. فكذلك هاهنا في {يَقُولُونَ رَبَّنَا} [الحشر: 10] أي ويقولون آمنا به.
ومما يؤيد هذا القول أنَّ اللّه تعالى لم ينزل كتابه إلاّ لينتفع له مبارك، ويدل عليه على المعنى الذي ارادهُ فقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195].
والمبين الظاهر، وقال: {بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ} [الأعراف: 52]. فوصف جميعهُ بالتفصيل والتبيين وقال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
ولا يجوز أن تبَّين مالا يعلم، وإذا جاز أن يعرفهُ الرسول صلى اللّه عليه وسلَّم مع قوله لا يعلمهُ إلاّ اللّه، جاز أن يعرفهُ الربانيون من أصحابه.
وقال: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 3] ولا تؤمر باتَّباع مالا يُعلم؛ ولأنَّه لولم يكن للراسخين في العلم هذا لم يكن لهم على المعلمين والجهال فضلُ؛ لأنهم ايضاً يقولون آمنا به.
{كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}: ولأنَّا لم نر من المفسرين على هذه الغاية قوماً يوفقوا عن شيء من تفسير القرآن وقالوا: هذا متشابه لا يعلمهُ إلاّ اللّه، بل أعزوه كله وفسروه حتى حروف التهجي وغيرها.
وكان ابن عباس يقول: في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم.
وقرأ مجاهد هذه الآية وقال: أنا ممّن يعلم تأويله.
وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلم ولا أعلم أربعة: غسلين، وحناناً، والاوَّاه، والترقيم. وهذا إنَّما قال ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسرَّها.
وقال آخرون: الواو في قوله: {والراسخون فِي العلم} واو الاستئناف وتم الكلام، وانقطع عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}. ثم ابتدأ وقال: {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} تلا {والراسخون} مبتدأ وخبره في يقولون، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير، ورواية طاوس عن ابن عباس، واختيار الكسائي والفراء والمفضَّل بن سلَّمة ومحمد بن جرير قالوا: إنَّ الراسخين لا يعلمون تأويله، ولكنهم يؤمنون به. والآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بما في أجَلَ هذه الأمة ووقت قيام الساعة، وفناء الدنيا، ووقت طلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى عليه السلام، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، وعلم الروح ونحوها مما إستأثر اللّه بعلمه ولم يطلع عليه أحد من خلقه.
وقال بعضهم: إعلم أنّ المتشابه من الكتاب قد أستأثر اللّه بعلمه دوننا، ونفسّره نحنُ، ولم نتعبد بذلك.
بل ألزمنا العمل بأوامره وإجتناب نواهيه، ومما يصدَّق هذا القول قراءة عبد اللّه أنَّ تأويلهُ لا يُعلم إلاّ عند اللّه، والراسخون في العلم يقولون آمنا به.
وفي حرف [...]: الراسخون في العلم آمنَّا به.
ودليله أيضاً ما روَّي عن عمر بن عبد العزيز، إنَّه قرأ هذه الآية ثم قال: انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}.
وقال أبو نهيك الأسدي: إنَّكم تصلون هذه الآية وإنَّها مقطوعة وهذا القول أقيس العربَّية وأشبه مظاهر الآية والقصة واللّه أعلم.
والراسخون: الداخلون في العلم الذين أتقنوا علمهم، واستنبطوه فلا يدخلهم في معرفتهم شك، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته وأوجب فيه يُقال: رسخ الإيمان في قلب فلان فهو يرسخ رسخاً ورسوخاً وكذلك في كل شيء ورسخ رصخ، وهذا كما يُقال: مسلوخ ومصلوخ قال الشاعر:
لقد رسخت في القلبِ منك مودة *** للنبي أبتْ آياتها أن تغيرا
وقال بعض المفسّرين من العلماء: الراسخون علماً: مؤمني أهل الكتاب، مثل عبد اللّه بن سلام وابن صوريا وكعب.
قيل: الراسخون في العلم هم بعض الدارسين علم التوراة.
وروي عن أنس بن مالك وأبي الدرداء وأبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل مَنْ الراسخون في العلم؟ فقال: «منْ برَّت يمينهُ، وصدق لسانهُ واستقام قلبهُ، وعف بطنهُ وفرجهُ، فذلك الراسخ في العلم».
وقال وهيب: سمعتُ مالك بن أنس يُسأل عن تفسير قوله: {والراسخون فِي العلم} من هم؟ قال: العالم العامل بما علم تبع له.
وقال نافع بن يزيد: كما أن يُقال الراسخون في العلم المؤمنون بالله، المتذللون في طلب مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقّرون من دونهم.
وقال بعضهم: {والراسخون فِي العلم}: من وجد في عملهِ أربعة أشياء:
التقوى بينهُ وبين اللّه تعالى، والتواضع بينهُ وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينهُ وبين نفسهُ.
وقال ابن عباس ومجاهد والسدي بقولهم: {آمنا به} سمّاهم اللّه تعالى: الراسخين في العلم؛ فرسوخهم في العلم قولهم: آمنا به أي بالمتشابه {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، ما علمناه وما لم نعلمهُ.
قال المبرد: زعم بعض الناس أن {عند} ههنا صلة ومعناهُ كل من ربَّنا. {وَمَا يَذَّكَّرُ}: يتعظ بما في القرآن.
{إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}: ذووا العقول ولبَّ كل شيء خالصه فلذلك قيل للعقل لب.


{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا}: أي ويقول الراسخون كقوله في آخر السورة: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَا} أي ويقولون {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تملها عن الحق والهدى، كما ازغت قلوب اليهود والنصارى، والذين في قلوبهم زيغ.
يُقال: زاغ يزيغ ازاغة إذا مال.
وزاغ تزيغ زيغاً وزيوغاً وزيغاناًاذا حال.
{بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}: وفقنا لدينك، والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك.
{وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}: وآتنا من لدنك رحمة وتوفيقاً وتثبيتاً للذي نحن عليه من الهدى والإيمان.
وقال الضحاك: تجاوزاً ومغفرة الصدَّق [.....] على شرط السنة.
{إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب}: تعطي. وفي الآية ردَّ على القدرية.
وروى عن أسماء بنت يزيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثر في دعائه: «اللهم يا مقلَّب القلوب ثبَّت قلبي على دينك».
قالت: فقلتُ: يا رسول اللّه وإنَّ القلوب لتقلب؟ قال: نعم ما خلق اللّه من بني آدمَّ من بشر إلاّ وقلبه بين اصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه، وإن شاء أقامه على الحق، فنسأل اللّه تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسألهُ أن يهبْ لنا من لدنه رحمةً إنَّهُ هو الوهاب.
قالت: قلت: يا رسول اللّه ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟
قال: بلى قولي: «اللهم ربَّ محمّد النبي، اغفر لي ذنبي، واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلاّت الفتن ما أحييتني». وعن أبي موسى الأشعري قال: وإنما مثلُ القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض.
خالد بن معدان عن أبي عبيدة بن الجراح: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور يتقلب في اليوم سبع مرات.
{رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ}: بالبعث ليوم القيامة وقيل: اللام بمعنى في أيَّ يوم.
{لاَّ رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه وهو يوم القيامة [....] عندما قرأ الآية [....] ولذلك انصرف عن الخطر إلى الخبر.
{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} وهو مفعال من الوعد.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ} قرأ السلمي {يغني} بالياء المتقدمة من الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل.
وقرأ الحسن {لن يغني} بالياء وسكون الياء الأخيرة كقول الشاعر:
كفى باليأس من أسماء كافي *** وليس لسقمها إذا طال شافي
وكان حقّه أن يقول: كافياً، فأرسل الياء، وأنشد الفرّاء في مثله:
كأن أيديهنّ بالقاع القرق *** أيدي جوار يعاطين الورق
القرق والقرقة لغتان في القاع.
ومعنى قوله: {لن يغني}: أي لن ينفع، ولن يدفع وإنما سمى المال غنى؛ لأنه ينفع الناس ويدفع عنهم الفقر والنوائب.
{عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً}.
قال الكسائي وقال أبو عبيدة: معناه عند اللّه شيئاً، من بمعنى الحال.
{أولئك هُمْ وَقُودُ النار} {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} نظم الآية {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم}: عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون، وكفَّار الأمم الخالية عاقبناهم فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم.
وأما معنى {كَدَأْبِ}: فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضَّحاك وأبو روق والسدَّي وابن زيد: كمثل آل فرعون مع موسى يقول كعب اليهود: لكفر آل فرعون والذين من قبلهم.
ربيع والكسائي وأبو عبيدة: كسنّة آل فرعون. الأخفش: كأمر آل فرعون. قال أمرؤ القيس:
كدأبك من أم الحويرث قبلها *** وجارتها أم الرباب بمأسل
وهذا أصل الحرف يقال: دائب في الأمر أو أبة دأباً ودائب (ويدأ ودءوبا) إذا أدمنت العمل ونعيته.
وأدأب السير أدآباً، فإنَّما يرجع معناه إلى النَّساب والحاك والعادة.
قال الشاعر:
لأرتحلن بالفجر ثمّ لادئبنّ ***
قال سيبويه: موضع الكاف رفع؛ لأن الكاف للتشبيه تقوم مقام الاسم، وتقديرهُ: دأبهم {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} كدأب الأمم الماضية {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله}: فعاقبهم.
{بِذُنُوبِهِمْ}: نظيره قوله: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40].
{والله شَدِيدُ العقاب} {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ}: قرأ إسحاق وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخَلْقٌ بالياء فيهما، الباقون بالتاء، فمن قرأهما بالياء فعلى الأخبار عنهم أنَّهم يحشرون ويقلبون، ومن قرأهما بالتاء فعلى الخطاب أي قلَّ لهم إنكم ستغلبون وتحشرون وكلا الوجهين صحيح؛ لأنه لم يوح إليهم، واذا كان المخاطب بالشيء غير حاضر وكانت مخاطبته في الكلام بالتاء على الخطاب، وبالياء على الأخبار والأعلام كما تقول: قل لغير اللّه ليضربن ولتضربن.
واختلف المفسرون في المعنى لهذه الآية من هم؟ فقال مقاتل: هم مشركو مكَّة، ومعنى الآية قيل لكفَّار مكّة: ستغلبون يوم بدر وتحشرون في الهجرة، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلَّى اللّه عليه وسلَّم للكافرين يوم بدر: «إنَّ اللّه غالبكم وحاشركم إلى جهنَّم».
دليلُ التأويل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ} [القمر: 45].
وقال بعضهم: المراد بهذه الآية اليهود.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: «إنَّ يهود أهل المدينة قالوا لمَّا هَزَمَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر: هذا واللّه النبي الأمَّي الذي بشَّرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته وصفته، وأنَّه لا تردُّ له راية، وأرادوا تصديقه واتَّباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى إلى وقفة أخرى به، فلمَّا كان يوم أُحدْ ونكب أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شكَّوا وقالوا: لا واللّه ما هو به فغلبَ عليهم الشقاء ولم يسلموا، وقد كان بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عهدُ إلى مدة لم تنقضِ فنقضوا ذلك العهد من أجله.
وإنطلق كعب بن الإشرف في ستين راكباً إلى أهل مكَّة، أبي سفيان واصحابه، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لتكون كلمتنا واحدة، ثم رجعوا إلى المدينة، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية.».
وقال محمد بن إسحاق عن رجاله لمَّا أصاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر، وقدِم إلى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: «يا معشر اليهود إحذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم قد عرفتم إنَّي نبي مرسل تجدونَ ذلك في كتابكم وعهدَ اللّه إليكم». فقالوا: يا محمَّد لا يغرنَّك أن لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة، لك واللّه لو قاتلناك لعرف منا البأس، فأنزل اللّه تعالى {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا}: يعني اليهود ستغلبون وتهزمون وتحشرون إلى جهنَّم في الآخرة، وهذه رواية عكرمة، وسعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: أهل اللغة إشتقاق جهنَّم من الجهنام وهي البئر البعيدة القعر.
{وَبِئْسَ المهاد} يعني النار {قَدْ كَانَ} ولم يقل كانت؛ لأنّ (آية) تأنيهثا غير حقيقي، وقيل: ردّها إلى البيان أي: قد كان لكم بيان فذهبَ إلى المعنى وترك اللفظ كقول امرؤ القيس:
برهرهة رأدة رخصة *** كخر عوبة البانة المنقطر
ولم يقل المنقطرة؛ لأنَّه ذهب إلى القضيب، وقال الفراء: ذكَّره؛ لأنَّه فرق بينهما بالصفة فلما حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ذكَّر الفعل وأنَّثه:
إنَّ أمرؤاً غرَّه منكره واحدة بعدي *** وبعدك في الدنيا لمغرورُ
وكل ما جاء في القرآن من هذا النحو، فهذا وجهه، فمعنى الآية {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ}: أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم ستغلبون.
{فِي فِئَتَيْنِ}: فرقتين وجماعتين وأصلها في الحرب من بعضهم بقى إلى بعض. {التقتا} يوم بدر.
{فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله}: طاعة لله وهم رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم وأصحابه، وقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، على عدَّة أصحاب طالوت الَّذين جازوا معه النهر وما جازَ معه إلاّ مؤمن، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ومئتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار.
وكان صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم والمبارزين علي بن أبي طالب عليه السلام، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكانت الإبل في جيش النبي صلى الله عليه وسلم سبعين بعيراً والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمر الكندي، وفَرسْ لمرثد بن أبي فهد العنزي، وكان معهم من السلاح: ستة أدرع وثمانية سيوف وجميع من أستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلاً من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
{وأخرى} وفرقة أخرى {ا كَافِرَةٌ}: وهم مشركو مكّة ورأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً مقاتلاً وكانت خيلهم مائة فرس، وكان حرب بدر مشهد شهده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان سبب ذلك أعين بن سفين، وإختلف القرَّاء في هذه الآية، قرأها منهم {فِئَةٌ} بالرفع على معنى منهما فئة أو إحداهما فئة.
وقرأ الزهري بالخفض على البدل من الفئتين.
وقرأ ابن السميقع: فما، على المدح.
وقرأ مجاهد: تقاتل بالياء ردَّه إلى القوم وجهان على لفظه، وقرأ الباقون بالتاء.
{يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ} قرأ أبو رجاء وأبو الحرث والحسن، وأبو جعفر، وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب بالتاء وإختاره أبو حاتم، الباقون بالياء، والباقون ممن قرأ بالتاء بمعناه ترونَ يا معشر اليهود والكفار أهل مكَّة مثلي المسلمين.
ومن قرأ بالياء فأختلف في وجهه فجعل بعضهم الخطاب للمسلمين، ثم له تأويلان أحدهما: ما يرى المسلمون المشركين مثلهم في العدد، ثم ظهر العدد القليل على العدد الكثير بخمس أمثال فتلك الآية فإن قيل كذا جاز أن يقول مثليهم وهم قد كانوا ثلاثة أمثالهم، فالجواب أن يقول: هذا مثل وعندك عبدٌ محتاج إليه وإلى مثله، إحتاج إلى مثلَيه فأنت محتاج إلى ثلاثة، ويقول: معي ألف وأحتاج إلى مثليه فأنت محتاجٌ إلى ثلاثة آلاف، فإذا نويت أن يكون الألف داخلاً في المثل كان المثل والاثنان ثلاثة.
قاله الفرَّاء: التأويل الآخر أن معناه يرى المسلمون المشركين مثلي عدد أنفسهم قللهم اللّه في أعينهم حتى رأتها ستمائة وستة وعشرون، وكانوا ثلاثة أمثالهم تسعمائة وخمسين، ثم قلّلهم في أعينهم في حالة أخرى حتى رأتها مثل عدد أنفسهم.
قال ابن مسعود: في هذه الآية نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضاعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا ولا واحداً، ثم قللهم اللّه في أعينهم حتى رأتهم عدداً يسيراً أقل عدداً من أنفسهم.
وقال ابن مسعود أيضاً: لقد قلَّلوا في أعُيننا يوم بدر حتى قلت لرجُل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلاً منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، وقال بعضهم: الروية راجعة إلى المشركين يعني: يرى المشركون المؤمنين مثليهم قلَّلهم اللّه في أعينهم قبل القتال يعني في أعين المشركين ليجترؤا عليهم ولا ينصرفوا، فلمّا أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا وقلّلهم في أعين المؤمنين ليجتروا فذلك قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الأنفال: 44] الآية.
محمَّد أبي الفرات عن سعيد ابن أبي آوس في قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} قال: كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمَّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم؟ قالوا: ثلاثمائة وبضعة عشرة، قالوا: ما كنَّا نراكم إلاّ تضاعفون علينا، قال: وذلك ممَّا نصر به المسلمون.
وقرأ السلمي {يَرَوْنَهُمْ} بضم الياء على مالم يسمي فاعله وإنْ شئت على معنى الظن.
{رَأْيَ العين} أي في رأي العين نصب ونزع حرف الصفة وإن شئت على المصدر أي ترونهم رأي العين، أي: في نظر العين يقال: رأيت الشيء رأياً ورؤية ورؤيا ثلاث مصادر إلاّ أنَّ الرؤيا أكثر ما يستعمل في المنام ليفهم في رأى العين بمعنى النظر إذا ذكر.
وقال الأعشى:
فلما رأى لا قوم من ساعة *** من الرأي ما أبصروه وما أكتمن
{والله يُؤَيِّدُ}: يقوي {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك}: التي ذكرت {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار}: لذوي العقول، وقيل: لمن أبصر الجمعين.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات}: جمع شهوة وهي نزوع عن النفس إليه، وإنَّما حُركَّت الهاء في الجمع ليكون فرقاً بين جمع الاسم وبين جمع النعت؛ لأنَّ النعت لا تحرك نحو: ضخمه، ضُخمات، وحبلة حبلات، والاسم يُحرك مثل: تمرة وتمرات، هو نفقة الجيل ونفقات، فإذا كان ثاني الاسم تاء أو واواً، فأكثر العرب على تسكينها (إستثقالاً) لتحريك الياء والواو كقولك: بيضة وبيضات، جوزة وجوزات.
وعن أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حُفَّت الجنَّة بالمكاره وحُفَّت النَّار بالشهوات».
{مِنَ النساء}: بدأ بهنَّ؛ لأنهنَّ حبائل الشيطان وأقرب إلى الافتان. {والبنين}: عن القاسم بن عبد الرحمن قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للأشعث بن قيس: هل لك من ابنة حمزة من ولد؟ قال: نعم لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني حيلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لئن قلت ذلك إنَّهم لثمرة القلوب وقرَّة الأعين وإنَّهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة». {والقناطير المقنطرة}: المال الكثير بعضه على بعض.
ابن كيسان: المال العظيم، أبو عبيدة: تقول العرب هو أن لا يُحدَّ.
وقال الباقون: فلا محدود، ثم اختلفوا فيه، فروى أبو صالح عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القنطار: إثنا عشر ألف أوقية». وعن يزيد الرقاشي قال: دخلت أنا وثابت وناسٌ معنا إلى أنس بن مالك فقلنا له: يا أبا حمزة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قيام الليل؟ قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ في ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية أعطي قيام ليلة كاملة، ومن قرأ مائتي آية ومعه القرآن فقد أدَّى حَقَّه، ومن قرأ خمسمائة آية إلى أن يبلغ ألف آية كان كمن تصدَّق بقنطار قبل أن يصبح، قيل: وما القنطار؟ قال: ألف دينار». سالم بن أبي الجعد عن معاذ بن جبل قال: القنطار ألف ومائتا أوقيَّة، وهو قول ابن عمر ومثله روي زر بن حبيش عن أُبي بن كعب: عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية». وروى عطية عن ابن عباس وعبدالله بن عمر عن الحكم عن الضحاك: «إنَّ القنطار ألف ومائتا مثقال». ومثله روى يونس عن الحسن عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
روي حمزة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القنطار ألف دينار». سعيد بن جبير عن عكرمة: هو مائة ألف ومائة مَنْ، ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم، ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل.
وعن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال: القنطار: مائة رطل.
فقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال.
أبو نظرة: مسك ثور ذهباً أو فضَّة.
سعيد بن المسيَّب وقتادة: ثمانون ألفاً.
ليث عن مجاهد القنطار: سبعون ألفاً.
شريك: أربعون ألف مثقال.
الحسن: القنطار ديَّة أحدكم.
ومثله روى الوالبي عن ابن عباس وجويبر عن الضحَّاك قال: إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار ديَّة أحدكم.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: القنطار بلسان أفريقيا والأندلس ثمانية آلاف جروال من ذهب أو فضة.
وروى الثمالي عن السدي قال: أربعة آلاف مثقال.
قال الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أنّ القناطير مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه وأصلها من الإحكام يقال: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سمَّيت القنطرة المقنطرة.
قال الضحاك: المقنطرة: المحصنَّة المحكمة.
قتادة: هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض كأنّها المدفونة يقال: قنطر إذا كثر.
السدي: المخزونة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير.
قال الفراء: المضعَّفة كأن القنطار ثلاثة والمقنطرة تسعة.
أبو عبيدة: هو مفعللة من القنطار مثل قولك ألف مؤلَّف.
{مِنَ الذهب والفضة}: قيل سُمَّي الذهب ذهباً؛ لأنه يذهب ولا يبقى، والفضَّة؛ لأنَّه تنفض أي تفرق.
{والخيل المسومة}: الخيل جمع هو لا واحد له من لفظه. واحدهُ (فرس) كالقوم والنساء والرهط والجيش ونحوها. واختلف العلماء في معنى {المسومة} فقال مجاهد، وسعيد بن جبير، والربيع: هي الراعية.
ومثله روى عطيَّة عن ابن عباس والحسن: هي المرعيّة يُقال: سامت الخيل يسوم سوماً، فهي سائمة، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة، وسوَّمتها تسويماً فهي مسوَّمة. قال اللّه: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10].
وفيهُ قول الأخطل:
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله *** أولى لك ابن مسيمة الاجال
يعني: ابن الابل.
حبيب بن أبي ثابت، وابن أبي نجيع عن مجاهد: المطهَّمة الحسان ليث عنها المصوَّرة، وعن عكرمة: تسويمها حسنها.
السدَّي: هي الرايعة، وكلها بمعنى واحد.
أبو عبيدة، والحسن، والاخفش، والقتيبيَّ: المعلَّمة. ومثلهُ روى الوالبي عن ابن عباس.
قتادة: شيباتها وألوآنها، المؤرَّج المكويَّة، المبرد: المعرفة في البلدان.
ابن كيسان: اليحلق وكلها قد قسارية وأصلها من السومة، والمسيما وهي العلامة. يُقال: سومت الخيل تسويماً إذا علمتها. قال اللّه تعالى: {بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125].
قال النابغة في صفة الخيل:
بسمر كالقداح مسوَّمات *** عليها معشر اشبها جنَّ
وقال الأعشى:
وفرسان الحفاظ بكل ثغر *** يقودون المسوَّمة العرابا
وقال ابن زيد وأبان بن ثعلب: المسومة: المعدَّة للحرب والجهاد. قل لبيد:
ولعمري لقد بلي كليب *** كلَّ قرن مسوَّم القتال
قال الثعلبي: ورأيتُ في بعض التفاسير: أنَّها الهماليخ.
فصل في الخيل (صفة خلقها).
روى الحسن بن علي عن أبيه علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللّه لما أراد أن يخلق الخلق قال للريح الجنوب: إنَّي خالقٌ منكِ خلقاً. فأجعله عزّاً لأوليائي، ومذلة على أعدائي، وجمالاً لأهل طاعتي، فقال الريح: أخلق. فقبض منها قبضةً فخلق فيها فرساً. فقال له: خلقتك عربياً وجعلت الخير معقوداً بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، عطفتُ عليك صاحبك، وجعلتك تطيرُ بلا جناح، وأنت للطلب وأنت للهرب، وسأجعل على ظهرك رجالاً يسبَّحوني ويحمدونني، ويهلَّلوني ويكبَّروني، تسبَّحين إذا سبَّحوا، وتهلَّلين إذا هلَّلوا، وتكبَّرين إذا كبرَّوا». وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ما من تسبيحة، وتحميدة وتمجيدة، وتكبيرةُ يكبّرها صاحبها وتسعهُ إلاّ وتجيبه بمثلها». ثم قال: «لما سمعت الملائكة صفة الفرس عاتبوا خالقها قالت: ربَّ نحن ملائكتك نسبّحك، ونحمدك فماذا لنا؟ فخلق اللّهُ لها خيلاً بلقاء أعناقها كأعناق البخت، قال: فلما أرسل الفرس إلى الأرض فأستوت قدماه على الأرض صهَل، فقيل: بوركتِ من دابَّة أذلَّ بصهيلهِ المشركين، أذل به أعناقهم، أملأ منه آذانهم، وأرعب به قلوبهم.
فلما عرض الله على آدم من كل شيء قال: أختر من خلقي ماشئت، فاختار الفرس. فقال له: اخترت عزّك وعزّ ولدك خالداً ما خلدوا وباقياً مابقوا. يلقح فينتج منه أولادك أبد الآبدين بركتي عليك وعليه؛ ما خلقتُ خلقاً أحبَّ الي منك ومنهُ». فضلها:
روى أبو صالح عن ابيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة». وعن سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس قال: لم يكن شيءٌ أحبَّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل.
وعن أبي ذرَّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ليس من فرس عربي إلاّ يؤذن لهُ مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللَّهم خولتني من خولتني من بني آدم، وجعلتني له، فاجعلني أحبُّ ماله وأهله إليه، أو من أحب مالهُ وأهلهُ إليه».
شأنها:
عن أبي وهب الحسيني، وكانت له صحبة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «وارتبطوا الخيل، وامسحوا نواصيها وأكفالها، وقلدوها ولا تقلدوها الاوتار، وعليكم بكل كميت أغرَّ محجَّل أو أشقر محجل، أو أدهم أغرَّ محجَّل». وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي يكره الشكال من الخيل، قال أبو عبد الرحمن: الشكال من الخيل أن يكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة أو يكون ثلاث قوائم مطلقة، ورجل محجلة، وليس تكون الشكال إلا في الرجل.
وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار». وجوهها:
زيد بن أسلم عن أبي صالح التمار عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر. ولرجل وزر، فأما الذي هو له أجر فرجلٌ ربطها في سبيل اللَّه، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة، كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فأستنت شرفاً أو شرّفن كانت أن آثارها وأورواثها حسنات له. ولو أنَّها مرَّتْ بنهر فشربت منهُ، ولم يردْ أنْ يسقيها منهُ كان ذلك حسنات لهُ؛ فهي لذلك أجر. ورجلٌ ربطها تقنَّناً وتعففاً، ولم ينسَ حق اللَّه في رقابها وظهرها فهي لذلك ستر. ورجلٌ ربطها فخراً ورياء ونوى لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر». وعن خباب بن الأرث قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة؛ فرس للرحمن، وفرس للأنسان، وفرس للشيطان؛ فأمّا فرس الرحمن فما اتخذ في سبيل اللَّه، وقتل عليه أعداء اللَّه، وأما فرس الإنسان فما استبطن ويحمل عليه، واما فرس الشيطان فما روهب ورُهن عليه وقومِر عليه». {والأنعام}: جمع نعم وهي الابل والبقر والغنم، جمعٌ لا واحد له من لفظه.
{والحرث}: يعني الزرع.
{ذلك}: الذي ذكرت.
{مَتَاعُ الحياة الدنيا}: لا عتاد المعاد والعقبى.
{والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب}: أي المرجع مفعل من أب، يؤوب أوباً مثل المتاب.
زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعتُ عبد اللَّه بن الأرقم وهو يقول لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إنّ عندنا حلية من حلية جلود وآنية من ذهب وفضّة فما رأيك فيها. فقال عمر: إذا رأيتني فارغاً فائتني، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّك اليوم فارغٌ. قال: فما نطلق معهُ، فجيء بالمال. فقال: أبسطهُ قطعاً، فبسط ثم جيء بذلك المال وصبَّ عليه ثم قال: اللهم إنَّك ذكرتَ هذه المال فقلت: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} ثم قلت {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} [الحديد: 23] اللهم إنا لا نستطيع أنْ لا نفرح بما آتينا، اللهم انفقهُ في حق، وأعوذ بك منهُ، قال: فأتى بابن له يحمله، يقال له عبد الرحمن، فقال: يا أبه هب لي خاتماً قال: إذهب إلى أمك تسقيك سويقاً، فلم يعطهِ شيئاً.


{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)}
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ}: أُخبركم.
{بِخَيْرٍ مِّن ذلكم}: الذي ذكرت تم الكلام ههنا: ثم ابتدأ فقال: {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ}: تقع خبر حرف الصلة.
{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله}: قرأ العامة بكسر الراء. وروى أبو بكر عن عاصم: بضم الراء من الرضوان في جميع القرآن وهو لغة قيس وغيلان، وهما لغتان كالعِدوان والعُدوان والطِغيان والطُغيان.
زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عزَّ وجل لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربَّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقول: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك».
فيقول: «ألا أعطكم أفضل من ذلك» فيقولون: وأيُّ شيءٌ أفضل من ذلك؟ قال: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً».
{والله بَصِيرٌ بالعباد} {الذين يَقُولُونَ}: إن شئت جعلته محل {الذين} على الجر رداً على قوله: {لِلَّذِينَ اتقوا}. وإن شئت رفعته على الابتداء كقوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111]. ثم قال في صفتهم مبتدئاً {التائبون العابدون} [التوبة: 112].
{رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا} صدَّقنا.
{فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا}: أسترها علينا وتجاوزها عنا.
{وَقِنَا عَذَابَ النار} {الصابرين}: في اداء الامر، وعن ارتكاب الزنى وعلى البأساء والضرَّاء وحين البأس. وإن شئت نصبتها وأخواتها على المدح، وإن شئت خفضتها على النعت.
{والصادقين}: في إيمانهم، قال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية {والقانتين}: المطيعين المصلين.
{والمنفقين}: أموالهم في طاعة الله.
وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ للهِ ملكاً ينادي: اللهم اعط مُنفقاً خلفاً، واعطِ ممسكاً تلفاً».
{والمستغفرين بالأسحار}: قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والكلبي، والواقدي: يعني المصلين بالاسحار. نظير قوله: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] أي يصلَّون.
وقال يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي الزهري قال: قلت لزيد بن اسلم: من المستغفرين بالأسحار؟ قال: هم الذين يشهدون الصبح.
وكذلك قال ابن كيسان: يعني صلاة الصَّبح في المسجد.
وقال الحسن: صلَّوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا.
قال نافع: كان ابن عمي يُحيي الليل، ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة، وإذا قلت: نعم، فيستغفر الله ويدعوا حتى الصبح.
وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعتُ رجلاً في السحر يتهجّد في المسجد وهو يقول: ربَّ أمرتني فأطعتك، وهذا سَحَر فاغفر لي. فنظرتُ فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه.
وروى صالح وحماد بن سلمة عن ثابت وأبان وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ الله عزَّ وجل يقول: «إني لأهمَّ بأهل الأرض عذاباً؛ فإذا نظرتُ إلى عمَّار بيوتي والى المتهجدين والى المتحابين فيَّ، والى المستغفرين بالاسحار صرفت عنهم».
محمد بن راذان عن أم سعد قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ ثلاثة أصوات يحبهم الله عزَّ وجلَّ؛ صوت الديك، وصوت الذي يقرأ القرآن، وصوت المستغفرين بالاسحار».
حمّاد بن سلمة عن سعيد الجريري قال: بلغنا أنَّ داود نبي الله سأل جبرائيل عليه السلام: أي الليل أفضل؟ فقال: ما أدري إلا أنَّ العرش يهتز من السَحَر.
وقال سفيان الثوري: إنَّ لله ريحاً يقال لها: الصبَّحية تهب وقت الأسحار تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبّار.
قال سفيان أنَّهُ إذا كان من أوّل الليل، نادى مناد: ألا ليقم العابدون، فيقومون فيصلّون ما شاء الله، ثم ينادي منادي في شطر الليل: ليقم القانتون، فيقومون كذلك يصلَّون إلى السَحَر.
فإذا كان نادى مناد: ألا ليقم المستغفرون، فيقومون فيستغفرون، ويقوم آخرون يصلَّون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد: اللهم ليقم الغافلون فيقومون، من فراشهم كأنهم نشروا من قبورهم.
وقال لقمان لإبنهِ: «يا بُني لا يكون الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم».
{شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ}.
عن غالب القطان قال: أتيتُ الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش وكنت أختلف إليه. فلما كنتُ ذات ليلة اردتُ أنْ أنحدر إلى البصرة قام من الليل يتهجد؛ فمر بهذه الآية {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} الآية. ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة، أن الدين عند الله الإسلام فقالها مراراً. قلت: لقد سمع. فما شيئاً فصلَّيتُ معهُ وودعته، ثم قلت: آية سمّعتك تردِّدها فما بلغك فيها؟ قال: والله لا أحدث بها إلى سنة. فلبثت على بابه ذلك اليوم، واقمت سنة، فلما مضت السنة قلتُ: يا أيا محمد مضت السنة، فقال: حدثنا أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله:عبدي عهد إليّ وأنا أحقُ من وفى بالعهد. أدخلوا عبدي الجنة».
خالد بن زيد عن يزيد الرقاسي عن أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} الآية.. عند منامهِ خلق الله عزَّ وجلَّ له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة».
وعن الزبير بن العوام قال: قلت: لأدنونَّ هذه العشية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عشية عرفه حتى أسمع ما يقول، فحبست ناقتي من ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وناقة رجل كان إلى جنبه.
فسمعتهُ يقول: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} الآية. فما زال يردَّدها حتى دفع.
يعقوب عن جعفر عن سعيد بن جبير قال: كان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنماً. فلما نزلت {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} الآية، خرَّوا سجّداً.
قال الكلبي: قدم حبران من أهل الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبهِ: ما أشبه هذه المدينة صفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج آخر الزمان فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاهُ بالصفة والنعت. فقالا لهُ: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأنت أحمد؟ قال: إنا محمد وأحمد قالا: إنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنَّا بك وصدَّقناك. فقال: بلى. قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللَّه؟ فأنزل اللَّه هذه الآية {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} الآية.. فأسلم الرجلان. واختلف القرّاء في هذه الآية. فقرأ أبو نهيك وأبو الشعثاء: {شَهِدَ الله} بالرفع والمدَّ على معنى: هم شهداء يعني: الذين مرَّ ذكرهم.
وروى المهلّب عن محارب بن دثار: {شَهِدَ الله} منصوبة على الحال والمدح.
وقرأ الآخرون: {شَهِدَ الله} على الفعل أي بيَّن؛ لأن الشهادة تبيين.
وقال مجاهد: حكم اللَّه، الفرّاء وأبو عبيدة: قضى اللَّه، المفضَّل: لعلم اللَّه. ابن كيسان: شهد اللَّه بتدبيره العجيب، وصنعه المتقن، وأُموره المحكمة من خلقه أنه لا اله إلا هو، وهذا كقول القائل:
وللَّهِ في كل تحريكة وتسكينة أبداً شاهد *** وفي كل شيء لهُ آية تدلُ على أنَّهُ واحد
وقيل لبعض الأعراب: ما الدليل على أنَّ للعالم صانعاً؟
فقال: إنَّ البعرة تدلُ على البعير، وآثار القدم تدلُ على المسير، وهيكل علَّوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة؛ أما يدلاَّن على الصانع الخبير.
قال ابن عباس: «خلق اللَّه الارواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، وشهد بنفسه لنفسهِ قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا برَّ ولا بحر، فقال: شهد اللَّه أنَّهُ لآ اله إلا هو».
وقرأ ابن مسعود: {أنَّ لا آله إلا هو...}
وقرأ ابن عباس: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ}: بكسر الألف جعلهُ خبراً مستأنفاً معترضاً في الكلام على توهم الفاء، كأنهُ قال: فإنَّه لآ اله إلاَّ هو، قاله أبو عبيدة والمفضَّل، وقال بعضهم: كسره؛ لأن الشهادة قول وما بعد القول يكون مكسوراً على الحكاية فتقديرهُ قال اللَّه: أنَّهُ لآ اله إلاَّ هو.
{والملائكة}: قال المفضّل: معنى شهادة اللَّه للإخبار والإعلام، ومعنى شهادة ملائكة اللَّه والمؤمنين الإقرار كقوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا} [الأنعام: 130] أي أقررنا فنسق شهادة الملائكة، {وَأُوْلُواْ العلم} على شهادة اللَّه تعالى.
والشهادتان مختلفتان معنى لا لفظاً كقوله عزَّ وجل: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] والصلاة من اللَّه (الرحمة) ومن الملائكة (الاستغفار والدعاء)، وأولوا العلم: يعني الانبياء عليهم السلام.
وقال ابن كيسان: يعني المهاجرين والأنصَّار.
مقاتل: مؤمني أهل الكتاب، عبد اللَّه بن سلام: وأصحابه: نظيره قوله: {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم} [الإسراء: 107]، وقوله: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43].
وقال السدي والكلبي: يعني علماء المؤمنين كلهم. فقرّب اللَّه تعالى شهادة العلماء بشهادته؛ لأن العلم صفة اللَّه العليا ونعمته العظمى. والعلماء أعلام الإسلام والسابقون إلى دار السلام وسرج الامكنة وحجج الأزمنة.
وروى صفوان عن سُليم عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ساعة من عالم متّكئ على فراشهِ ينظر في علمهِ خير من عبادة العابد سعبين عاماً».
المسيب بن شريك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «تعلَّموا العلم؛ فإنَّ تعلَّمهُ للَّهِ حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنهُ جهاد؛ وتعليمهُ من لا يعلمهُ صدقة، وتذكره لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنة والنار، والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة، والميراث في الخلوة، والدليل على السرَّاء والضرَّاء، والسلاح على الأعداء، والقرب عند الغرباء، يرفع اللَّه به أقواماً ويجعلهم في الخير قادةً يُقتدى بهم، ويُبيّن اثارهم، ويرموا أعمالهم، ويُنهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلواتهم تستغفر لهم، وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحر وسباع الأرض وأنعامها والسماء ونجومها، ألا فإن العلم خير أنقاب عن الصمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأحرار، ومجالس الملوك، والفكرُ فيه يُعدل بالصيام ومدارسته بالقيام، به يُعرف الحلال والحرام، وبه توصَّل الأرحام، إمام العمل والعقل تابعهُ، يُلهم السعد أو يُحرم إذا شقى».
{قَآئِمَاً بالقسط}: أي بالعدل ونظام الآية {شهد اللَّه قائماً بالقسط}. وهو نصب على الحال.
وقال الفرّاء: هو نصب على القطع كأن أصله القائم، وكذلك هو في (عبد اللَّه) فلما قطعت الألف واللام نصب لقوله تعالى: {وَلَهُ الدين وَاصِباً} [النحل: 52].
وقال أهل المعاني في قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم}: أي مدبّر، رازق، مُجازي بالاعمال كما يقال: فلان قائم بأمري: أي مدبّر له متعهد لأسبابه، وقائم بحق فلان: أي بحاله.
{إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم}: كرّر؛ لأنّ الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت في محل الحكم.
وقال جعفر الصَّادق: الأُولى وصف وتوحيد والثانية رسمٌ وتعليم يعني قولوا: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم}.
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام}: يعني بالدين الطاعة والملّة لقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً}.
وفتح الكسائي ومحمد بن عيسى الاصفهاني ألف {إنَّ} رداً على {أنَّ} الأُولى في قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ} يعني: شهد اللَّه أنَّه، وشهد أن الدين عند اللَّه الإسلام، وكسر الباقون على الإبتداء. والإسلام من السلم: الإيمان والطاعة يُقال: أسلم أي: دخل في السلم. وذلك كقولهم: استى وأربع وأمحط واخبت: أي دخل فيها.
سفيان: قال قتادة: في قولهِ: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} قال: شهادة أن لا اله إلا اللَّه. والإقرار بأنَّها من عند اللَّه، وهو دين اللَّه الذي شرع لنفسهِ، وبعث به رسله ودلَّ عليه أولياءه ولا يُقبل غيره ولا جزى إلاَّ بهِ.
{وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} الآية، قال الربيع: إنَّ موسى عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا سبعين حبراً من أحبار بني إسرائيل، واستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليها، واستخلف يوشع بن نون.
فلمّا مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم، وهم الذين أوتوا الكتاب من أبْنَاء أولئك السبعين حتى أوقعوا بينهم الدماء، ووقع الشر والإختلاف وذلك {مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} يعني: بيان ما في التوراة {بَغْياً بَيْنَهُمْ}: أن طلبها للملك والرئاسة والتحاسد والمناقشة؛ فسلط اللَّه عليهم الجبابرة.
وقال بعضهم: أراد {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب}: في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم، يعني: بيان نعته وصفته في كتبهم.
وقال محمد بن جعفر عن الزبير: نزلت هذه الآية في نصارى نجران ومعناها: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} هو الإنجيل في أمر عيسى عليه السلام، وفرَّقوا القول فيه إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم، بأن اللَّه واحد، وأنَّ عيسى عبدهُ ورسوله {بَغْياً بَيْنَهُمْ}: أي للمعاداة والمخالفة.
{وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}: لا يحتاج إلى عقد وقبض يد.
وقال الكلبي: نزلت في يهوديين تركوا اسم الإسلام وتسمَّوا باليهودية والنصرانية، قال اللَّه تعالى: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} قال: دين اللَّه هو الإسلام بغياً منهم فلمّا وجدا نظيره قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة} [البينة: 4] فقالت اليهود والنصارى: لسنا على ما سميتنا بهِ يا محمد إنَّ اليهودية والنصرانية سبّ هو الشرك، والدين هو الإسلام ونحن عليه.
{فَإنْ حَآجُّوكَ}: خاصموك يا محمد في الدين، {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ}: أي انقدت لأمر الله {للَّهِ}: وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي، إنَّما خص الوجه لإنَّهُ؛ أكرم جوارح الإنسان، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه التي هي دون وجهه.
وقال الفرّاء: معناه أخلصت عملي للَّه.
يُقال: أسْلمت الشيء لفلان وسلمتهُ له، أي دفعته إليه [......] ومن هذا يُقال: أسلمتُ الغلام إلى [....] وفي صناعة كذا. أي أخلصت لها.
والوجه: العمل كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}: أي قصده وعمله. وقوله: {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} [الليل: 20].
{وَمَنِ اتبعن}: (من) في محل الرفع عطفاً على التاء في قوله: {أَسْلَمْتُ} أي: ومن اتبعني أسْلم كما أسلمت.
وأثبت بعضهم ياء قوله: {اتبعني} على الأصل، وحذفهُ الآخرون على لفظ ينافي المصحف (إذا وقعت فيه بغير ياء). وأنشد:
كفاك كفَّ ما تليق درهماً *** جوداً وأخرى تعط بالسيف دماً
وقال آخر:
ليس تخفى يسارتي قدر يوم *** ولقد يخفِ شيمتي إعساري
{وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين}: يعني العرب {ءأسْلمتم}: لفظ استفهام ومعناهُ أمر، أي أسلموا كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]: أي نهوا، {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا}: فقرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقال أهل الكتاب: أسلمنا. فقال للنصارى: أتشهدون أنَّ عيسى كلمة من اللَّه وعبدهُ ورسوله، فقالوا: معاذ اللَّه.
وقال لليهود: إنّ عزير هو عبدالله ورسوله، قالوا: معاذ الله فذلك قوله: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ}. بتبليغ الرسالة، {والله بَصِيرٌ بالعباد}: عالم بمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن باللهِ وبأهل الثواب وبأهل العقاب.
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ}: يجحدون، {بِآيَاتِ الله}: بحجّة وأعلامه، وقيل: هي القرآن، وقيل: هم اليهود والنصارى {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قرأ الحسن {وَيَقْتُلُونَ} بالتشديد فهما على تكَّثر.
وقرأ حمزة: {وتقاتلون الذَّين يأمرون} اعتباراً بقراءة مسعود {وقاتلوا الذين يأمرون به}، ووجه هذه القراءة {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} وقد «قاتلوا الذين يأمرون»؛ لأنهُ غير جائز عطف الماضي على المستقبل وفي حرف. أي: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ} قال مقاتل: أراد بهِ ملوك بني اسرائيل.
وقال معقل بن أبي سكين، وابن جريج: كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل، ولم يكن يأتيهم كتاب فيُذكِّرون قومهم فيقتلون. فيقوم رجال فمن اتّبعهم وصدقهم فيذَّكرون قومهم فيُقتلون أيضاً. فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس.
وعن قبيصة بن دويب الخزاعي عن أبي عبيدة الجرّاح قال: قلتُ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أيُ الناس أشدُ عذاباً يوم القيامة؟ قال: «رجلٌ قتل نبياً، أو رجلٌ أمر بالمنكر ونهى عن المعروف»، ثم قرأ رسول لله صلى الله عليه وسلم {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} إلى قوله: {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً في أول النهار ساعة واحدة، فقام مائة وإثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني إسرائيل فأمروا من قبلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقُتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم اللَّه تعالى في كتابه فأنزل الآية فيهم».
وعن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس القوم قومٌ يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وبئس القوم قومٌ يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتمان».
{فَبَشِّرْهُم...} أخبرهم بعذاب أليم، وإنما أُدخل الفاء في خبرها؛ لأنهُ قوله: الذين موضع الجزاء وإنّ لا تبطل معنى الجزاء؛ لأنّها بمزلة الابتداء عكس: ليت.
وقيل: أُدخل الفاء على الغاء أن وتقديرهُ: الذين يكفرون ويقتلون فبشّرهم بعذاب أليم رجيح.
{أولئك الذين حَبِطَتْ}: ذهبت وبطلت.
وقرأ أبو واقد والجرّاح: {حبطت} بفتح التاء مستقبلة تحبِط بكسر الباء وأصلهُ من الحبط وهو أن ترعى الماشية بلا دليل ورديع فتنتفخ من ذلك بطونها، وربَّما ماتت منهُ، ثم جعل كل شيء يهلك حبطاً.
ومنهُ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مما يُنبت الربيع ما يقتل حبطاً إذ يلم».
{أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا}: أي نصيباً وحظاً من الكتاب. يعني: اليهود يُدعون إلى كتاب اللَّه.
واختلفوا في هذا الكتاب الذي أخبر اللَّه تعالى إنَّهم يُدعون إليه فيعرضون عنه. فقال قوم: هو القرآن.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: إنَّ اللَّه عزَّ وجل جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبين رسول اللَّه، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنَّهم على غير دين الهدى فأعرضوا عنه.
وقال قتادة: هم أعداء اللَّه اليهود. دُعوا إلى حكم القرآن واتباع محمد صلى الله عليه وسلم فأعرضوا، وهم يجدونهُ مكتوباً في كتبهم.
السَّديَّ: «دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام، فقال لهُ النعمان بن أبي أوفى: هلَّم يا محمَّد نخاصمك إلى الأحبار، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بل إلى كتاب اللَّه. فقال: بل إلى الأحبار. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية».
وقال الآخرون: هي التوراة.
روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس، قال: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى اللَّه عزَّ وجل.
فقال له نعيم بن عمر وابن الحارث بن فهد: على أيَّ دين أنت يا محمد؟
فقال: على ملّة إبراهيم. قالا: إنَّ إبراهيم كان يهودياً. فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأسلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنَّ رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا، وكانا في شرف منهم، وكان في كتابهم الرجم. فكرهوا رجمهما لحالهما وشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول اللَّه رحمة في أمرهما، فُرفعِوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان ابن أبي أوفى ونخري بن عمر: جُرتَ علينا يا محمد. ليس عليهما الرجم، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم». قالوا: قد أنصفتنا. قال فمن أعلمكم؟ فقالوا: رجل أعمى يسكن فدك، يُقال له ابن صوريا، فأرسلوا إليه، فقدم المدينة وكان جبرائيل عليه السلام قد وصفهُ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال له رسول اللَّه: «لأنت ابن صوريا؟» قال: نعم. قال: «أنت أعلم اليهود؟» قال كذلك يزعمون، قال: فدعا رسول اللَّه بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب. فقال له: «أقرأ». فلما أتى آية الرجم وضع كفهُ عليه وقرأ ما بعدها. فقال ابن سلام: يا رسول اللَّه قد جاوزها ووضع كفهُ عليها، وقام ابن سلام إلى ابن صوريا فرفع كفهُ عنها، ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليهوديان المحصنان إذا زنيا، وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها. فأمر رسول اللَّه باليهوديين فرُجماً، فغُضِب اليهود لذلك غضباً شديداً، وانصرفوا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7